تضمن القرآن كثيرا من الآيات التي تعرضت لطبيعة تكوين
الإنسان، ووصفت أحوال النفس المختلفة، وبينت أسباب انحرافها ومرضها، وطرق
تهذيبها وعلاجها.
وليس هذا الكتاب" القرآن وعلم النفس" إلا محاولة لجمع
الحقائق والمفاهيم النفسية التي وردت في القرآن، والاسترشاد بها في تكوين
صورة واضحة عن شخصية الإنسان وسلوكه، لتمهيد الطريق لنشأة دراسات جديدة في
علم النفس تحاول وضع الأسس لنظريات جديدة في الشخصية تتفق مع الحقائق
والمفاهيم التي وردت في القرآن.
بهذه الكلمات استهل د. محمد عثمان نجاتي أستاذ علم النفس بجامعتي القاهرة
والكويت كتابه القيم بعنوان "القرآن وعلم النفس" الصادر عن مكتبة دار
الشروق في 319 صفحة من الحجم المتوسط.
يلخص د. نجاتي دوافعه لوضع هذا الكتاب في أن علماء النفس المحدثين حصروا
أنفسهم في دراسة الظواهر النفسية التي يمكن ملاحظتها ودراستها دراسة
موضوعية، وتجنبوا البحث في الظواهر النفسية الهامة التي لا يمكن إخضاعها
للملاحظة أو البحث التجريبي.
وقد أدى هذا أن سادت وجهة النظر المادية تلك التي أهملت تناول النواحي
الدينية والروحية، والقيم الإنسانية العليا، والحب في أسمي صوره الإنسانية
( بعيدا عن النواحي الجنسية التي تغلب على دراسة علماء النفس المحدثين)
وأثر العبادات في سلوك الإنسان والصراع النفسي بين الدوافع البدنية
والدوافع الروحية.
القرآن لا يكبت الدوافع
قسم المؤلف الكتاب إلى عشرة فصول، وجاء الفصل الأول بعنوان: "دوافع السلوك
في القرآن"، وقال خلاله بأن مشيئة الله اقتضت وجود الدوافع الفسيولوجية،
كالحاجة للطعام والشراب، في فطرة كل من الإنسان والحيوان لتحقيق حفظ النوع
. ولا يوجد في القرآن أو السنة ما يشير إلى استقذار هذه الدوافع أو
إنكارها أو ما يدعو إلى كبتها، إنما يدعو القرآن وكذلك السنة إلى السيطرة
على الدوافع والتحكم فيها وإشباعها فقط في الحدود التي يسمح بها الشرع
لمصلحة الفرد والجماعة.
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً
وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُّبِينٌ"
والقرآن نهانا عن إشباع دافع الجوع عن طريق الكسب الحرام، ونهانا عن أكل
أنواع معينة من المأكولات لما فيها من أضرار صحية، كما ينهانا عن شرب
الخمر، وعن إشباع الدافع الجنسي عن غير طريق الزواج لتحقيق الأمن
والطمأنينة.
"وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"
كما حث القرآن الإنسان علي أن يسيطر على دوافعه النفسية، كدافع العدوان ودافع التملك.
" وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ "
الإدراك الحسي
الفصل الثالث تحدث فيه المؤلف عن إدارك الإنسان للعالم الخارجي بالحواس
الظاهرة وهي السمع والبصر والشم والذوق والحواس الجلدية، كما يتم عن طريق
الإحساس الداخلي لما يحدث في بدننا من اختلال في التوازن العضوي
والكيميائي كالجوع والعطش.
ونلاحظ أن القرآن الكريم يذكر السمع مفردا، بينما يذكر الأبصار في معظم
الآيات في صيغة الجمع، وهذا من أدلة الإعجاز في أسلوب القرآن، حيث أن حاسة
السمع تستقبل الأصوات الصادرة من جميع الجهات بينما العين لا ترى إلا إذا
اتجه الإنسان ببصره نحو الشئ الذي يريد أن يراه، وإذا حدث صوت في مكان
يجتمع فيه جمع من الناس فإنهم جميعا يسمعون نفس الصوت تقريبا، بينما هم
يرون الشئ الواحد من زوايا مختلفة وبذلك تكون الرؤية مختلفة.
الرؤية عن بُعد
هناك نوع من الإدراك الحسي غير العادي، يسميه العلماء بالإدراك الحسي
الخارج عن نطاق الحواس مثل الاستشفاف وهو رؤية الأشياء أو الأحداث البعيدة
الخارجة عن مجال حاسة الإبصار، و التخاطر وهو إدراك خواطر وأفكار شخص آخر
يكون في الغالب في مكان بعيد، والاستهتاف وهو سماع نداء أو حديث من مكان
بعيد خارج عن مجال حاسة السمع.
وقد ذكر القرآن مثالا لهذا النوع من الإدراك الحسي غير العادي وهو حديث
يعقوب عليه السلام حينما شم ريح ابنه يوسف عليه السلام حينما تحركت
القافلة التي تحمل قميصه من أرض مصر بعيدا عن المكان الذي يوجد فيه يعقوب
عليه السلام بمسيرة عدة أيام "وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ
إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ "
ومن أشهر حوادث الرؤية عن بعد في العصر الإسلامي، حادثة "يا سارية الجبل"
فقد كان عمر بن الخطاب يخطب يوم الجمعة بالمدينة، ثم قطع الخطبة وينادي"
يا سارية بن حصن ! الجبل ..الجبل! ومن استرعى الذئب ظلم" وبعد الصلاة قال
للإمام علي " وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وأنهم يمرون بجبل..
فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوه وظفروا، وإن جاوزا هلكوا. فخرج مني هذا
الكلام"..ثم جاء البشير بعد شهر فقال انهم سمعوا في ذلك اليوم صوت عمر
يناديهم "يا سارية بن حصن ! الجبل ..الجبل" فرجعوا إليه ووفقهم الله
وانتصروا.
التعلم في القرآن
وفي الفصل الخاص بالتعلم في القرآن يحدثنا الكاتب عن مصدرين من العلم
للإنسان، مصدر إلهي، ومصدر بشري، والمصدر الإلهي يكون عن طريق الوحي أو
الإلهام أو الرؤيا الصادقة. والمصدر البشري يكون عن طريق خبرات الحياة.
واستخدم القرآن مبادئ عديدة لدفع الإنسان للتعلم، ومنها إثارة الدوافع مثل
الترغيب في الثواب الذي سيحظى به المؤمنون في نعيم الجنة وبترهيبهم من
العذاب الذي سيلحق بالكافرين في نار جهنم.
استخدم القرآن الترهيب والترغيب معا ؛ ومعلوم أن استخدام الترهيب وحده كان
سيؤدي لطغيان الرهبة على النفس فتيأس من رحمة الله، واستخدام الترغيب وحده
كان سيؤدي لاستيلاء الأمل في رحمة الله على النفس مما يوكلها إلى التكاسل
والغفلة. يقول صلي الله عليه وسلم" ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في
القلب وصدقه العمل. إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا لا
حسنة لهم، وقالوا نحسن الظن بالله، وكذبوا، لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا
العمل له"
".